المنبر الاقتصادي (التضخم) – ألقت بيانات المعهد الوطني للإحصاء المتعلقة بتراجع التضخم خلال مارس 2023 الى 3ر10 بالمائة بصيص أمل لكسر حلقة ارتفاع الأسعار في تونس، التي قضّت مضاجع المستهلكين، لكن التضخم الذي لطالما أسقط توقعات المحللين وباغت الاقتصاد العالمي، يراه أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، رضا الشكندالي، لا يزال متربصا بتونس، متأهبا لمزيد الارتفاع رغم تراجعه الطفيف.
وتبحث وكالة تونس افريقيا للأنباء « وات »، في هذا الحوار الذي أجرته مع الشكندالي، في حقيقة تراجع التضخم في تونس خلال شهر مارس 2023 ومدى ارتباط ذلك بالسياسة النقدية للبنك المركزي التونسي والعلاقة القائمة بين تراجع التضخم على أساس سنوي وارتفاع الأسعار على أساس شهري خاصة وأن الأسعار شهدت ارتفاعا خلال مارس 2023.
وات : هل دفعت السياسة النقدية التضخم الى التراجع خلال شهر مارس 2023 أم ثمة عوامل أخرى؟
الشكندالي: أريد ان أوضح ان نسبة التضخم المسجلة، خلال شهر مارس من 2023، ولئن تراجعت الى مستوى 3ر10 بالمائة من 4ر10 بالمائة خلال فيفري 2023 ، فإنها لا تزال عند مستوى يقارب 3 أضعاف ما كانت سنة 2016 والتي شهدت إقرار القانون الأساسي المؤسس لاستقلالية البنك المركزي.
ومنحت الصلاحيات التي وفرها القانون، البنك المركزي التونسي، القدرة بل الأداة لانتهاج السياسة النقدية الحذرة لاستهداف التضخم المالي والتي أدت الى الترفيع في عديد المرات في نسبة الفائدة المديرية.
وأريد ان اشير الى ان البنك المركزي التونسي ظن أنه من خلال هذه الأداة، اي السياسة النقدية، سينجح في كبح جماح التضخم لكن النتائج المحققة على أرض الواقع تشير الى عقم هذه السياسة في مكافحة التضخم المالي في تونس.
بيد اني أتوقع ان يلجأ البنك المركزي مرة أخرى الى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بما أنه لا يمتلك اداة غيرها من السياسات الاقتصادية لمكافحة التضخم المالي .
وأرى ان هذه الخطوة والتي لم يقدم عليها خلال اجتماع مجلس إدارته في 22 مارس 2023، ستكون دون جدوى بل ان الترفيع في نسبة الفائدة المديرية، البالغة حاليا 8 بالمائة، سيزيد من تعميق الكلفة المالية للمؤسسة الاقتصادية والتي ستنعكس على الأسعار، كما سيزيد في ارتفاع الأقساط من القروض البنكية التي يدفعها المواطن التونسي ما سيرهق قدرته الشرائية.
ويقودني هذا الى القول عند هذه النقطة، أنّ التضخم عندما يواصل الارتفاع لأكثر من 20 شهرا متتاليا، وإذا ما انطلقنا في رسم مسار الارتفاع منذ جويلية 2021، فاننا نصل الى نتيجة مفادها ان التضخم المالي بات معضلة هيكلية يستحيل مكافحتها باستعمال السياسة النقدية والتي تبقى سياسة ظرفية بالأساس.
وات : على اعتبار ان السياسة النقدية لم تكن بالنجاعة المطلوبة الى ما يعود هذا التراجع؟
الشكندالي: هذا سؤال مهم، اعتقد ان هذا التراجع الطفيف لا يعكس تراجعا بالمعني الحقيقي للكلمة بل إن النظر في الأرقام المتصلة بالانزلاق السنوي، تحيل الى ان نسبة التضخم سجلت نوعا من الاستقرار، إذ تقلصت من 4ر10 بالمائة خلال فيفري 2023 الى مستوى 3ر10 بالمائة.
لكن المثير للاهتمام في الأرقام المتصلة بمتابعة التضخم تتمثل في نسبة التضخم المالي لشهر مارس 2023، تقارب ضعف نسبة التضخم المسجلة خلال شهر جويلية 2021 والبالغة قرابة 5 بالمائة، علما وان نسبة التضخم خلال شهر مارس 2021 كانت في حدود 8ر4 بالمائة.
وات : كيف يمكن تحفيز التضخم على مزيد التراجع ؟
الشكندالي : اعتقد ان الحل لمزيد دفع التضخم نحو الهبوط في تونس، يكمن في انتهاج آليات نقدية ومالية أخرى، ولعل أهم الخطوات هي التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتعزيز سعر صرف الدينار وكبح جماح التداين الداخلي بغرض توفير السيولة اللازمة والتي لا تذهب في اتجاه مسارات تنموية بل للإنفاق العام او لإقراض الشركات وعلى اعتبار استمرار نسبة الفائدة عند مستويات عالية فان ذلك يؤدي الى ارتفاع الأسعار واستمرار التضخم في نسق تصاعدي .
ومع وصول السياسة النقدية الى طريق مسدود فيتعين على تونس السعي حثيثا من اجل اقتلاع اتفاق مع صندوق النقد الدولي لانعاش الخزينة وبالتالي تعزيز سعر صرف الدينار والذي بدوره سيكون له انعكاس على الأسعار وكذلك اللجوء الى التمويلات الثنائية ومتعددة الأطراف الأخرى.
واذا ما جابهت تونس صعوبات في التوصل الى اتفاق مالي مع صندوق النقد الدولي وظل الاتفاق معلقا، فانه من الضروري العمل على إيجاد خيارات أخرى من بينها تأجيل رفع الدعم عن المحروقات وتحريك عجلة تصدير الفسفاط والقطاعات التصديرية الأخرى لدعم سعر صرف الدينار واتباع سياسات كفيلة بالحد من تنامي السوق السوداء للعملة.
ويجب علينا ان ننتظر وصول الاقتصاد العالمي الى مرحلة يتراجع فيها التضخم المسجل على مستوى الاقتصاديات الكبرى والتي جابهتها البنوك المركزية من خلال الترفيع في نسبة الفائدة، من بينها الفيدرالي الأمريكي والبنك الأوروبي، الى جانب تحرك سلاسل الامداد مجددا وتوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، مما يفضى الى تراجع كلفة المواد الاساسية التي تعتمد عليها تونس على غرار الحبوب والزيوت النباتية والتي تدخل في مؤشرات الأسعار وبالتالي تؤدي الى حالات التضخم.
وات : كيف تفسرون تراجع التضخم من جهة وارتفاع أسعار الاستهلاك من جهة أخرى؟
الشكندالي: ارتفعت الأسعار بحساب الانزلاق الشهري، بنسبة 7ر0 بالمائة خاصة لحم الضأن الذي صعد بنحو 3ر4 بالمائة ولحم البقر بـ5ر1 بالمائة في حين زادت أسعار الأسماك الطازجة بـ3ر2 بالمائة والخضر الطازجة بـ2ر3 بالمائة.
في المقابل تراجعت نسبة التضخم الى 3ر10 بالمائة علما وان التضخم يعد معدلا عاما ولا يعكس الانطباع العام لدى المواطن التونسي والذي يهتم أساسا بما يصرفه كل يوم لاقتناء مستلزماته من لحوم بيضاء وحمراء وأسماك وبيض وخضر وغلال وزيوت ومشتقات الحبوب.
وبناء على ما سبق فإن التضخم المالي الغذائي او الانطباعي الذي يحسه المستهلك يوميا، وهذا الأهم، فاق نسبة 20 بالمائة بالنسبة لعدة مواد غذائية. وقد وصل بالنسبة الى لحم الضأن الى 2ر34 بالمائة والبيض، 3ر31 بالمائة، والدواجن، 8ر23 بالمائة، ولحم البقر 8ر21 بالمائة.
وات : هل تراجع التضخم سيستمر أم انه مجرد ارتداد طفيف لمتطلبات مرحلية؟
الشكندالي: لن يتوقف التضخم في تونس عن الارتفاع في قادم الأشهر بعد دخول إجراءات قانون المالية لسنة 2023 حيز التنفيذ ولا سيما في ما يخص رفع الدعم على المحروقات والمواد الأساسية والزيادة في نسبة الأداء على القيمة المضافة لبعض الأنشطة الاقتصادية.
وأمام التأخير الحاصل في الاتفاق حول قرض صندوق النقد الدولي وأمام فرضية عدم الموافقة عليه، ستجبر الحكومة على مزيد الالتجاء الى الاقتراض الداخلي أي ضخ السيولة في الاقتصاد بدون مقابل نماء للثروة وهو ما سيسهم في مزيد التهاب الأسعار في قادم الأشهر.