المنبر الاقتصادي (توقعات الدولار) – مؤخراً شهد الدولار الأمريكي تراجعًا ملحوظًا مقابل الين الياباني، حيث كسر زوج الدولار/الين مستوى الدعم النفسي الهام عند 144.00، وهو ما يمثل علامة فارقة في تحركات هذا الزوج، ويعكس بوضوح حالة القلق والضعف التي تحيط بالدولار. ولم يكن هذا الانخفاض مفاجئًا بالنسبة للاسواق، إذ بدأت بوادر التراجع في الظهور منذ بداية التوترات المالية الأمريكية وتصاعد المخاوف المتعلقة بالسياسة المالية في واشنطن. وأرى أن هذا الاختراق يمثل نقطة تحول حاسمة، وقد يشير إلى تحول في هيمنة الدولار على الساحة العالمية، على الأقل على المدى المتوسط.
والسبب الرئيس وراء هذا التراجع يعود إلى تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من قبل وكالة موديز، والتي لحقت بخطى ستاندرد آند بورز وفيتش. فهذا التخفيض يعكس فقدان الثقة في المسار المالي طويل الأجل للولايات المتحدة، خاصة في ظل مقترحات الرئيس دونالد ترامب المتعلقة بمشروع قانونه الضريبي الجديد، والذي قد يضيف ما يصل إلى 3.8 تريليون دولار إلى العجز خلال السنوات العشر المقبلة. ومن وجهة نظري، فإن هذا المشروع لا يشير فقط إلى زيادة حادة في الدين العام، بل يهدد أيضًا استقرار سوق السندات الأمريكية التي طالما اعتُبرت ملاذًا آمنًا. المستثمرون الآن باتوا أكثر حذرًا في تقييمهم للدولار، وينظرون إلى المخاطر السياسية والمالية كعوامل تهديد حقيقية.
ومن ناحية أخرى، يشهد الين الياباني انتعاشًا تدريجيًا، مستفيدًا من صورته كملاذ آمن، بالإضافة إلى التغييرات الجارية في السياسة النقدية اليابانية. فبنك اليابان، الذي كان يُعتبر لفترة طويلة آخر معاقل السياسات النقدية التيسيرية في الاقتصادات المتقدمة، بدأ يظهر إشارات واضحة على استعداده لتشديد السياسة النقدية تدريجيًا. وهذه الإشارات، إلى جانب التضخم المرتفع وزيادة الأجور المحلية، تعزز التوقعات بإمكانية رفع أسعار الفائدة في اليابان هذا العام. وأعتقد أن هذا التحول في السياسة اليابانية يمثل تطورًا جوهريًا، من شأنه أن يعيد رسم العلاقة بين الدولار والين، ويدفع المتداولين نحو إعادة تقييم مراكزهم الاستثمارية.
فالتصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الياباني كازو أويدا حول ضرورة تضييق الفجوة بين أسعار الفائدة الأمريكية واليابانية تؤكد هذه النظرة. وهذه الفجوة ظلت لعقود أحد العوامل الرئيسية التي أضعفت الين أمام الدولار، إلا أن الوقت قد حان لإعادة التوازن. وإذا استمر التضخم في اليابان واستمرت الضغوط على الأسعار، فإن أي رفع للفائدة سيكون له تأثير مزدوج: دعم الين من جهة، وتقليص فاتورة الواردات المرتفعة نتيجة ضعف العملة من جهة أخرى. لذلك، لذا أرى أن اليابان في طريقها لاستعادة بعض من قوة عملتها، خاصة إذا ظل البنك المركزي الأمريكي مترددًا في رفع الفائدة أو حتى بدأ بالحديث عن خفضها.
وفي المقابل، لا يزال الغموض يغطي قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ورغم التصريحات المتحفظة من مسؤوليه، إلا أن المخاوف بشأن توقعات التضخم والضغوط على سوق السندات، خاصة في الشريحة الطويلة الأجل، بدأت تلقي بظلالها على السياسات النقدية الأمريكية. والتحذير الأخير من صندوق النقد الدولي بشأن “العبء المالي المتزايد للولايات المتحدة” يأتي ليؤكد هذه التحديات، ويزيد من الضغوط على الدولار، ويضعف قدرته على الصمود أمام عملات مثل الين أو حتى اليورو. وأعتقد أن التردد في رفع الفائدة الأميركية، إلى جانب تصاعد الدين العام، قد يقلل ثقة الأسواق العالمية في الدولار على المدى المتوسط.
ففي الوقت الذي نشهد فيه ارتفاعًا في عوائد السندات طويلة الأجل في كل من الولايات المتحدة واليابان، فإن السياق مختلف تمامًا. في اليابان، كان الدافع هو ضعف مزاد السندات الحكومية وتزايد التوقعات بشأن إنهاء سياسة التحكم في منحنى العائد، بينما في الولايات المتحدة، يرتبط الارتفاع بتزايد القلق من العجز المالي وتراجع شهية المستثمرين نحو السندات الحكومية. ومن وجهة نظري، هذه الحالة تشير إلى أن الدولار قد يواجه فترة مطولة من الضعف، خاصة إذا لم تتمكن الحكومة الأمريكية من إقناع الأسواق بجديتها في معالجة الأزمة المالية المقبلة.
ولا يمكن إغفال العامل الجيوسياسي. فالاختلال المستمر في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة واليابان، وخاصة في ظل احتمالية عودة رسوم ترامب الجمركية، قد يُعيد الخلافات التجارية والتوترات حول سياسات العملة. فالتصريحات الأولية عن إمكانية مناقشة ضعف الين الياباني في المفاوضات التجارية الثنائية تُوحي بأن العملة ستبقى عنصرًا رئيسيًا في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهو ما يجعل من المتوقع أن نشهد مزيدًا من التصريحات والمواقف المتضاربة التي قد تُحدث تقلبات كبيرة في سوق العملات.
وفي ضوء هذه المعطيات، أرى أن الاتجاه العام لزوج الدولار/الين سيبقى مائلًا للهبوط خلال الربع الثاني من العام، ما لم تحدث مفاجآت جوهرية في السياسة النقدية الأمريكية أو تطورات اقتصادية مفاجئة. والتركيز سينتقل الآن إلى البيانات الاقتصادية الأمريكية القادمة، وأداء سوق السندات، وردود فعل الأسواق على مشروع قانون ترامب الضريبي، إضافة إلى مراقبة خطوات بنك اليابان المقبلة. وفي كل الأحوال، فإن عودة الين إلى واجهة المشهد كعملة قوية، وليست فقط كملاذ آمن، قد بدأت بالفعل، وهي مرشحة للاستمرار.
التحليل الفني لـ الدولار/الين ( USDJPY ):
يواصل زوج الدولار الأمريكي/الين الياباني مساره الهابط للجلسة الثالثة على التوالي، متأثراً بضعف الدولار الأمريكي الواضح، بالتزامن مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بعد تقارير عن احتمال ضربة لإيران، مما عزز تدفقات الملاذ الآمن نحو الين الياباني. كما أن استعداد اليابان لمناقشة تحركات سوق العملات مع الولايات المتحدة خلال قمة مجموعة السبع المقبلة ساهم في الضغط على الزوج، وسط توقعات بتشديد الرقابة على تذبذبات سعر الصرف.